اليوم الأربعاء يوماً مهماً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. والمقصود هنا ليس فقط الاحترازات الأمنية والمخاوف من انتشار عدوى «كوفيد - 19»، ونشوب مناورات مع مناصري الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب، وما إلى ذلك، بل أيضاً الموضة التي سيكون لها نصيب لا يستهان به من الأهمية في هذا اليوم التاريخي. فقد تكون لعروض الأزياء العالمية وحفلات الأوسكار وحفل الموضة السنوي الذي ينظمه متحف ميتروبوليتان للفنون أهميتها الفنية والتجارية القصوى، لكنها لا ترقى إلى حفل تنصيب الرئيس الأميركي. فما يلبسه الرئيس الجديد وزوجته يبقى مؤرخاً في كتب التاريخ وفي أرشيف مكتبة «سميثسون» لتُمحصه وتدرسه أجيال قادمة.
السبب يشرحه أندرو بولتون، أمين متحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك، بقوله إن «الموضة مرآة تعكس أحداث العصر، بما فيها السياسة، ذلك أنها استعملت دائماً للتعبير عن الميول الوطنية أو القومية، كما لتسليط الضوء على القضايا المعقدة المتعلقة بالطبقية والعرق، ومؤخراً قضايا البيئة من دون أن ننسى البروباغندا». يشير بولتون أيضاً إلى أن المصممين لا يصنعون أزياء أنيقة فحسب، بل هم ناشطون مؤثرون من الناحية السياسية بشكل غير مباشر.
مصمم دار «لويس فويتون» فيرجيل أبلو، ومؤسس ماركة «أوف وايت»، يؤكد هذا الرأي بقوله إن السياسة لم تعد اهتماماً ثانوياً في حياة الناس «بل هي جزء من ديناميكية نعيشها بشكل يومي... فهي تحاصرنا من كل صوب بدءاً من هواتفنا المحمولة إلى ثقافة الشارع ما جعل أزياءنا هي الأخرى سياسية».
أهمية حفل التنصيب تعود إلى أنها الانطباع الأول، وهي التي تُعطي فكرة عن أجندة الإدارة الجديدة وما تأمل تحقيقه. طريقة اختيار الأزياء ترسخ الانطباع الأول، حسب ما تقوله كيمبرلي كريسمان، وهي مؤرخة موضة في كتابها «Worn on This Day: The Clothes That Made History». تم ارتداؤه في هذا اليوم: ملابس صنعت التاريخ».
تستدل بالأزياء التي اختارها جون كيندي وزوجته جاكلين في حفل تنصيبه عام 1961. وهو أول حفل يتم بثه على التلفزيون بالألوان. أشعلت أزياء الرئيس وزوجته خيال المتابعين، بحيث كان نقطة التحول في علاقة الموضة بالسياسة. فرغم أن الرئيس الشاب ظهر آنذاك ببدلة رسمية تقليدية وقبعة رأس كما جرت العادة من قبله، إلا أنه سرعان ما خلع القبعة في حركة غير مسبوقة أثارت حفيظة الجيل القديم وأثارت إعجاب الجيل الجديد الذي كان يستهدفه كيندي. بين ليلة وضحاها تراجعت مبيعات القبعات، ثم اختفت تماماً من حفلات تنصيب كل من خلفوه من الرؤساء حفاظاً على ولاء الشباب. جاكلين كيندي أيضاً غيرت وجه الموضة بعد ظهورها بمعطف مستقيم من الصوف تزينه أزرار كبيرة عوض معطف فخم من الفرو وفستان طويل. كان منظرها بسيطاً مقارنة بمن سبقنها من زوجات الرؤساء لكنه كان عصرياً. كان كل شيء في أزياء الزوجين يقول بأنهما من جيل الشباب وأنهما مع التغيير، وهو ما خلف أصداء إيجابية.
لكن شتان بين التغييرات التي شهدتها حقبة الستينيات من القرن الماضي وما تفرضه جائحة «كورونا» وحملات «مي - تو» النسوية وحركة السود من تغييرات حالية. فإذا كانت صورة جاكلين كيندي في عام 1961 مثيرة للأحلام ورومانسية بشكل عصري، فإن الصورة التي يمكن أن تُطل بها كل من جيل بايدن وكمالا هاريس على العالم اليوم الأربعاء ستكون أكثر واقعية وعملية تعكس شخصية كل من جيل بايدن التي تعشق مهنة التدريس وتنوي الاستمرار فيها حتى بعد أن تصبح سيدة أولى، وقوة وكاريزما كمالا. المؤكد أن الأنظار ستُسلط على هذه الأخيرة أكثر، ليس لأنها أول امرأة تتبوأ هذا المنصب القوي فحسب، بل لأنها أيضاً تتحدر من أصول جمايكية وهندية.
حفل التنصيب سيكون مناسبة تتحد فيها قوى الإدارة الجديدة لتأتي الصورة قوية وباعثة على الأمل في لم الشمل بعد الشتات الذي شهدته الولايات المتحدة مؤخراً. الألوان التي ستختارها جيل وكمالا، وطبعاً الرئيس الجديد جو بايدن، سيتم اختيارها بعناية فائقة، لأنها ستكون رسائل للعين واللاوعي. وبينما سيبقى الأحمر والأزرق والأبيض الاختيار التقليدي للرئيس لأسباب معروفة، فإن الاختيار أمام السيدات سيبقى مفتوحاً بلا قيد أو شرط. ومع ذلك تؤكد المؤرخة والكاتبة كريزمان كامبل أن اختيار هذه الألوان لا يمر مرور الكرام، وبأن له تأثيرات طويلة على الساحة العامة. في حفل تنصيب الرئيس إيزنهاور، مثلاً اختارت زوجته مامي فستان سهرة باللون الوردي الخفيف. وقع اختيارها عليه فقط لأنه كان لونها المفضل والمناسب لبشرتها. لم تتوقع أبداً أنه سيُصبح لصيقاً باسمها طوال حقبة الخمسينات بحيث يُعرف باسم «مامي بينك». بالقوة نفسها، جعلت نانسي ريغان اللون الأحمر لونها الخاص. فهناك الآن «أحمر فالنتينو غارافاني» و«أحمر ريغان».
لكن لا يتوقع العديد من متابعي الموضة أن يحمل اليوم مفاجآت كبيرة في هذا الجانب. فجيل بايدن قد تظهر بفستان أو معطف بتصميم أنيق يؤكد حبها للألوان والتنويع في ارتداء فساتين بتصاميم عصرية وشبابية، بينما تُرجح التوقعات أن تظل كمالا وفية للتايور المكون من بنطلون وجاكيت. ربما ستُضفي عليه لمسة ناعمة بتنسيقه مع قميص من الساتان وعقد من اللؤلؤ، كما لا يُستبعد أن تطعمه بلمسة تشير إلى جذورها العرقية، وفي كل الحالات ستكون إطلالة قوية تعكس الوضوح والتفاؤل والأمل، وكلها صفات تعكس شخصيتها وتوجهاتها السياسية.
النقطة الأخرى، التي لا تقل أهمية، أن كل الأزياء ستكون مصنوعة في الولايات المتحدة الأميركية. فهذا هو التقليد منذ عهد جورج واشنطن الذي يقال إنه تعب طويلاً ليجد خياطاً أميركياً يصنع له بدلته الصوفية الخاصة بتنصيبه. هذا التقليد احترمه كل من أتوا من بعده، وتفسره كامبل في كتابها بأنه ليس مجرد تعبير عن شعور وطني، بل أيضاً دعاية ودعم للمصممين المحليين، وهو ما سيُرحب به صناع الموضة الأميركية الآن أكثر من أي وقت مضى، بسبب الضرر الذي لحق بهم بسبب الجائحة من جهة ورفضهم لشعبوية ترمب من جهة ثانية. فرفضهم التعامل معه أو مع ميلانيا كلفهم الكثير. الإدارة الجديدة تُدرك جيداً أهمية الموضة كقطاع فعال ومؤثر، ليس على المخيلة أو الاقتصاد فحسب، بل أيضاً كأداة لتوحيد القوى. وهذا ما يأمل الكثيرون رؤيته على منصة التنصيب غداً من خلال أزياء تعبر عن الشمولية والتنوع. الآمال معقودة على كمالا هاريس طبعاً. فتأثيرها بالنسبة لصناع الموضة الأميركية سيكون مثيراً وديناميكياً لمسوه خلال حملتها الانتخابية، بعد تصدرها غلاف مجلة «إيل»، ومؤخراً غلاف مجلة «فوغ»، النسخة الأميركية لعدد شهر فبراير (شباط)، الذي ما إن تسرب حتى أشعل جدلاً لم تنته أصداؤه بعد، مؤكداً أن الانتقاد قاسم مشترك بين الموضة والسياسة، وبأن رضا الجميع غاية لا تُدرك.
كان الغلاف خبطة صحافية بكل المعايير بالنسبة للمجلة، يؤكد أن الموضة والسياسية مترابطان بخيوط متينة تشكل قناعات مؤثرة. من هذه القناعات مثلاً أن المجلة رفضت رفضاً قاطعاً التعامل مع ميلانيا ترمب طوال حكم زوجها، بحيث لم تظهر على غلافها سوى في عام 2005، أي قبل أن يتولى زوجها الرئاسة. تجاهلها طوال أربع سنوات يتناقض مع تقليد اتبعته المجلة وتمنح فيه سيدات البيت الأبيض صفحات سخية، سواء من خلال جلسات تصوير أو حوارات خاصة، كما لن يفهمه البعض بالنظر إلى أن ميلانيا ترمب تتمتع بكل مواصفات عارضات الأزياء وتعتبر مناسبة جداً لتصدر غلاف أي مجلة براقة أكثر من ميشال أوباما التي منحتها «فوغ» ثلاثة أغلفة، الأمر الذي أغاظ دونالد ترمب وجعله يُعبر عن استيائه بتغريدة يدين فيها هذا التجاهل.
بيد أن الحيز الأكبر من الجدل حول غلاف «فوغ» الأخير، ليس اختيار كمالا، بل الصور التي تظهر فيها بإضاءة باهتة وتايور وحذاء رياضي وقلادة من اللؤلؤ قيل إنها من خزانتها الخاصة، ولم تتدخل خبيرات المجلة في اختيارها، لتأتي النتيجة أقل من عادية مقارنة بأغلفة «فوغ» المبهرة. لم يشفع للغلاف أن مصوره تايلر ميتشل، هو أول مصور أسود تتعامل معه المجلة.
ما يعرفه كل صحافي، أن الحصول على موافقة شخصية مثل كمالا، وفي هذا التوقيت لكي تخضع لجلسة تصوير وإجراء لقاء صحافي، يتطلب أحياناً تقديم عدة تنازلات. من هذا المنطلق يمكن فهم أن السيدة هاريس ليس لها أي رغبة في أن تغير الصورة التي اجتهدت في رسمها لعقود، فقط لـتبدو أكثر أناقة أو جمالاً في وقت تنادي فيه بالمساواة والعدالة الاجتماعية. فهي على العكس من ميلانيا تماماً لم تغازل الموضة أو تحلم بأن تكون فتاة غلاف. فالفرصة بالنسبة لها كانت تقديم رسالة سياسية من خلال مجلة لها
تاريخ بحكم أنها تُدرك أهمية الأزياء كلغة صامتة لكن بليغة التأثير.
أنا وينتور أكدت الأمر عندما سارعت للدفاع عن الغلاف قائلة إن الفكرة كانت من البداية صورة تجسد الواقع الحالي الذي تفرضه جائحة «كورونا» والاقتصاد المنهار والحركات الاجتماعية المتمردة. هذا الواقع يفرض أزياء عملية وأجواء غير مبالغ فيها، لهذا كان من الضروري أن يعكس الغلاف ما نشهده الآن من أحداث. عندما يُطرح العدد في الأسواق في شهر فبراير المقبل، ستكون كمالا هاريس قد نصبت رسمياً نائبة رئيس لبايدن، وهو ما سيكون لحظة تاريخية بالنسبة للمرأة من جهة والأقليات العرقية من جهة ثانية، وسيثبت أن كمالا بأسلوبها المتمثل في التايور المكون من بنطلون وجاكيت، الذي لا تحيد عنه قوية لا تحيد أيضاً عن وعودها السياسية.
Comments